الاثنين، 19 أكتوبر 2015

بالنعامة إلى المدينة

بالنعامة إلى المدينة   
تمهيد:
 لم تكن تلك ليلة كباقي الليالي ، ولم يكن ذاك الاتصال كباقي الاتصالات ، إنها بشرى وأي بشرى ، إنها بداية مرحلة جديده من مراحل حياتنا البائسة المملة  ..
كان المتصل صديقي "ابو ياسر " محمد مختار .
ألو...السلام عليكم – وعليكم السلام ورحمه الله ،اهلا أبا ياسر .
أبشرك لقد اشتريت سيارة .
ماذا؟؟؟
نعم اشتريت سيارة ، تذهب إلى كل مكان متى نشاء وكيف نشاء .
وااااو مبروك الله يعطينا خيرها ... ياسلاااام  أخيراً سننطلق ، سنتنزه ،سنخرج من غياهب هذا الحي الذي نحصر فيه انفسنا حتى ضاق بنا .
كدت أطير فرحاً من هذه المفاجأة ،أخيراَ  سنمخر عباب هذا الطريق الذي يؤدي إلى كل مكان ،سأرى الضباب الذي يتحدثون عنه ،سأرى الطرقات الواسعة ،سأرى كل شيء.
يرن هاتفي مجدداً ..إنه عبدالرحمن ساكو .. لاشك أنه يريد أن يبشرني .
-       ألو أهلا عبدالرحمن .
-       هل جاءتك البشرى ؟
-       نعم ولكن نسيت أن أسأله عن نوعها .
-       إنها "لوريل "من بنات نيسان ،بيضاء فاتنة ،أنيقة مرنة ، سريعة مرحة لا ينقصها إلا قليل من السمكرة ، وإسكات بعض الأصوات المنبعثة من اسفلها وإحكام إغلاق الشنطة لأنها تفتح تلقائيا مع كل مطب ،ولكنها الليث الغضنفر حين يزأر ، وكالفهد حين يجري ليثأر .صحيح أن موديلها قديم ولكنها تعمل عمل الجديد .. إنها النعامة.

في دلجة من الليل اجتمع رهط من الشباب سرًا لتحديد موعد ووجهة أول رحلة بالنعامة ، كان رأي الأغلبية مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبركا وتيمنا ، والموعد غدا بعد العشاء .
بدأت الاتصالات تنهمر على هواتف الشباب ،
إسماعيل حجز مقعدا ، أبو فارس السيسي و عبد العزيز وافقا على القدوم معنا ، عبدالله فلاته كان أول المتحمسين كعادته .
وُكلت إليّ قيادة هذه الرحلة ( الأمير ) نعم أمير الرحلة المباركة إلا طيبة الطيبة .
-       أبي لماذا لا تريد مني الذهاب مع أصدقائي ، لم أعد طفلا يا أبي ، أستطيع الاعتماد على نفسي ، أرجوك أبي .. أرجوك .
-       لديك تحفيظ يا بني .
-       أبي سأستأذن من أستاذي ، وأنا لم أتغيب منذ عام من التحفيظ .. أرجوك يا أبي دعني أستمتع قليلا .. وبعد إلحاح شديد وافق أبي على الذهاب على مضض .
لم يكن هذا حالي فقط ، بل أغلب الشباب كانوا يتباكون عند آبائهم وأمهاتهم للموافقة على الرحلة ، ناهيك عمن قبّل اليد والقدم ليظفر بهذه الرحلة المثالية .
اليوم الموعود :
وها هي الشمس خارجة من خدرها على استحياء تأذن بميلاد يوم جديد ، يوم المغامرة الأولى .
استنفار منذ الصباح ، أبو ياسر و السيسي يهيآن المركبة للرحلة ،كنت أتصل على الشباب فردا فردا ، مستفسرا عن نتيجة الإلحاح الشديد لطلب الإذن ، هل أثمر ؟ أم باء بالفشل ؟ أظن أن الشباب ماهرون في الانكسار والخضوع عند الطلب .
مالت الشمس إلى الغروب ، وملنا نحن إلى النعامة ، لم يكن يهمنا اتساع المكان ، أو كفاية العدد ، بقدر ما كان يهمنا أن تحلق بنا النعامة إلى المدينة المنورة .
اجتمعنا في الموعد المحدد و لكن طرأت مشكلة بسيطة لم تكن بالحسبان ، إنه العدد !! النعامة لا تحمل سوى أربعة وخامسهم السائق ، وكان عددنا سبعة .
بدأت الحيرة تسلك مسلكها .. من سيضحي ويعود ؟ ما هو الحل ؟
هنالك زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، فلا أحد يريد أن يعود وخاصة بعد ذلك الإلحاح الشديد .
وصلت النعامة ووضع الجميع حقائبهم على ظهرها ، لم يفكر أحد بالانسحاب ، الحل هنا واحد ، ليركب الجميع ظهر النعامة ، أبو مراد ( الأمير ) و السيسي يركبان في مقعد واحد بجوار السائق ، والبقية في الخلف ، وكانت هناك حكمة نتداولها للتخفيف عن الزحام ( الوسعة في القلوب ) المهم أن يذهب الجميع .
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلا ربنا لمنقلبون....
أخرج أبو ياسر هاتفه من جيبه واتصل على معلم حلقة التحفيظ الأستاذ محمد علي ليخبره بأمر الرحلة .... في الحقيقة لم يكن استئذانا بل اخبارا حتى لا يبدي رأياً مخالفا .
وتنطلق النعامة محلقة بنا إلى يثرب وعلى ظهرها سبعة أصدقاء أثقلوا أجنحتها .
الأمير يجمع المال ( القطة ) ويضرب الأخماس بأسداس ، هذا للنُزُل ، وهذا للطعام الشهي ، وهذا للنعامة ، طعامها ووقودها ..
تجاوزت النعامة مسجد التنعيم وتجاوزنا حد الحرم وهانحن في طريقنا إلى المدينة المنورة ، نهفوا ونشتاق لرؤية مسجد المصطفى صل الله عليه وسلم ،أبو ياسر يتمتم بكلمات ، أهي أدعيه أم أذكار !؟ لا أدري .
عبدالله وإسماعيل وعبدالرحمن وعبدالعزيز منهمكون في الضحك .. أبو فارس يراقب السائق حتى لا تأخذه سنة أو نوم والنعامة تصرخ تارة وتغني اخرى ،تسرع وتبطئ ، الليل حالك الظلمة ، تنظر ذات اليمين فلا ترى شيئا ، وذات الشمال فلا ترى سوى ضوء خافت هناك في الطريق الاخر يقرب ويتجاوز ثم تحل الحلكة و الدلجة مرة اخرى ، اكتست السماء بالنجوم فتزينت ، والأرض بالسواد فهدأت وسكنت ، لا نسمع من الأصوات إلا همسا ، وزمار النعامة التي تتعالى كلما طال بنا الطريق .
لا تسلينا إلا تلك اللوحات الإرشادية على جنبات الطريق ، التي تخفف عنا وعثاء السفر، وتقرب المسافة بإخبارنا كم ميلا قطعنا وكم بقي لنا .
أبو فارس السيسي يلحظ بعض التوتر على السائق ، أبو ياسر مع  زيادة التمتمات .
_ أبو ياسر ما بك ؟ .. لا شيء  " التعشيق صار ثقيل " ، انخفضت سرعة النعامة بشكل ملحوظ اختفت الضحكات ، وبدأت الألسن تلهج  بالدعوات ، سنقف عند أول محطة في طريقنا ، لا نستطيع أن نقف هنا فالظلام دامس و المكان موحش ، لمحنا ضوءاً خافتاً من بعيد ، نعم إنها محطة ، يممنا نحوها مباشرة ، ولكنها محطة جرداء ، قليلة الخدمات ،     هناك في أقصى المحطة ( ورشة ) لبيع و إصلاح الإطارات ، توجهنا نحوه ونحن نعلم أنه لن يفيدنا بشيء ..
_ يا عم هناك صوت في السيارة والقابض ( التعشيق ) لا يعمل بشكل جيد ..          ماذا نعمل ؟
_ لا يوجد هنا فني سيارات ( ميكانيكي ) ، ولكن لا تقلق فالأمر سهل فقط خفف السرعة وامضي .
_ انطلقنا كالهم أثقل ظهر النعامة ، فأبطأ سيرها ، وبان عرجها ، وظهر عيبها ، كالسلحفاء باتت تسير ، يتجاوزنا  السرعاء كالبرق الخاطف ، نسمع صوت حديدٍ متآكلٍ أسفل السيارة، والأمر يزداد صعوبة كلما ازدادت سرعة النعامة ، بتنا نرقب أول محطة لنقف فيها ، فقد تكالبت المخاوف علينا
ماذا لو وقفت بنا النعامة هنا في غسق الليل ؟ ماذا حلّ بها ؟ ماذا لو لم نجد في المحطة ( فني السيارات ) ليصلحها ؟
ونحن كذلك إذ لمحنا ضوءا من بعيد ، بل أضواء ، إنها محطة الأمل الوحيد ، تنفسنا الصعداء، ويممنا نحوها علّنا نجد الأمل المنشود الذي دبّ إلى قلوبنا من جديد ، دخلنا المحطة فإذ      ا بفني المركبات يستقبلنا بحفاوة ، فلعله لم يقابل أحدا منذ حين ، أعلمناه بالمشكلة ، نزل وألقى نظرة على النعامة ، تفحصها وقلبها ، أطال النظر فيها ، كأنه علم ما بها ، ولما نظر إلى وجوهنا البريئة لم استطاع إخبارنا بالحقيقة المؤلمة ..
تبادرناه بالسؤال ، ماهي المشكلة ؟ .. هل هي كبيرة ؟ .. هل يمكنك إصلاحها ؟
قلّب بصره في وجوهنا المرتقبة ، فكر وقدر ، ثم فكر وقدر ، ثم نظر ، ثم قال : مشكلة بسيطة إن شاء الله ، لعله ( صحن الكلتش ) وهذا سهل يمكن إصلاحه ، ولكن ليس عندي هنا ، لأنه لا مكان هنا لبيع أدوات وقطع السيارات ، لذا يجب عليكم حمل السيارة على حاملة سيارات ( سطحة ) والتوجه لأقرب فني سيارات ( ميكانيكي ) في قرية تبعد بعضة أميال من هنا ، قرية تسمى قديد[1] ، وهي قرية تقع بين مكة والمدينة بالقرب من خليص .
_جاء صاحب السطحة  وحمل النعامة على ظهر السطحة ، فطرأت مشكلة أخرى ، ليس في السطحة سوى مكان راكب واحد ونحن سبعة أشخاص ، والحكمة التي كنا نرددها " الواسعة في القلوب " لم تعد تصلح هنا ، اقترحنا وبساطة أن نكون داخل النعامة ، فأجاب بكل حزم ممنوع ، هذا لا يعقل !!
لا مجال للاقتراحات هنا فنحن أمام خيار واحد لا ثاني له ، أن يركب أحدنا مع صاحب السطحة ، ويدركه البقية بسيارة اخرى ، ولكن من أين لنا بسيارة أخرى في هذا الليل الحالك الذي لا نرى فيه سوى النجوم و إضاءات المحطة ، وبرق السيارات التي تمر كالرعد تبرق وتختفي , قلبت بصري في وجوه الشباب , فإذا الحيرة بادية على وجوههم , لا حل هنا سوى المستحيل , الحكمة الأولى " الوسعة في القلوب " نعم سنحاول الركوب في المقعد الواحد بقلب رجل واحد بسبعة أجساد , اندهش صاحب السطحه , وتغيرت ملامح وجهه   كلكم في مقعد واحد ؟!!
نعم هذا ما نقصده تماماً , لا يضرنا أن نزدحم ربع ساعة أو نصفها ، فذاك أولى من الفرقة والتشتت ، لم يستوعب قائد السطحة تلك الفكرة ، فقال : ولكن كيف ذلك ؟
-سنريك الآن .. اركب يا عبد العزيز ، أبو ياسر بجواره فالمقعد واسع نوعا ما ، وفوقهما اثنان ليصبحوا أربعة ،، والنتيجة >> لا مجال للمزيد ،
فكرة أخرى اقترحها عبدالله : يجلس أحدنا ثانيًا ركبتيه إلى كتفيه والآخر كذلك ظهرًا إلى ظهر ، ثم نحاول الركوب بطريقة معينة .
باءت هي الأخرى بالفشل فلا مجال لسبعة أشخاص في مقعد واحد .
بقيت هناك خطة واحدة اقترحها الأمير : إنها خطة " الانكماش العشوائي " !!! نعم إنها خطة حديثة لمثل هذه المواقف ، وبالفعل نجحت الخطة ... وركب الجميع .
ملامح العجب لا تكاد تفارق وجه سائق السطحة .. المهم أنه أحكم إغلاق الباب والنافذة جيدا ، فالوضع مريب ، سبعة أشخاص في مقعد رجل واحد !!
انطلق السائق : - باسم الله مجراها ومرساها – وهو مشتت الذهن بين النعامة في الخلف ، والسبعة بجواره ، كان الليل يسترنا عن أعين الناس بثوب الظلمة ، أصبح بعضنا لا يشعر ببعض أعضائه التي لا يدري أين هي في زحمة اختلاط الأعضاء ، المهم ( الوسعة في القلوب ) وسنصل قريبا ..
استوقفنا رجل الأمن في نقطة تفتيش ، أقبل فاغرا فاه ، واسع العينين ، تكاد تقتله الدهشة ! لا عجب .. فهو يرى كومة من الأعضاء  والأطراف مختلطة ببعضها ، ورؤوسا ليست على رقاب ، وأجسادا منكمشة بعضها إلى بعض !!
في الحقيقة .. كان يظننا من الجن ... سأل السائق بيده فلم يستطع أن يتكلم ، أومأ بيده ما هذا ؟!! فأخبره السائق الخبر والحدث ، فأشار بيده أن ارحل بسرعة ،، لم نسمع منه كلمة واحدة .. لعله سيختم القرآن هذه الليل .
إلى وادي قديد كانت الوجهة , أخذ السائق ذات اليمين , وسلك طريقاً لم يعبد بعد , أما نحن فقد ضاقت أنفاسنا واختلطت أطرافنا أصبحنا كالجسد الواحد , إذا تحرك منا أحد صرخ الجميع , هذا يقول يدي وذاك قدمي وهذا ذراعي وأخر يقول : ارفع نفسك قليلاً  لكي أتنفس , والسائق يدفع بيده يد هذا تارة و رجل هذا تارة , همة أن يصل سالماً ويأخذ أجرته وينصرف .
_ توقف السائق ... في اللامكان .. ليل حالك .. وظلمه شديدة , سكون الليل قد عم المكان .
_ وصلنا أنزلوا !! ولكن كيف ونحن لا نعرف أطرافنا ولا نستطيع أن نتحرك .. نزل السائق و فتح لنا الباب , فانهمرنا على الأرض سقوطاً ووقوفاً , ونتحسس أطرفنا التي تنملت , استنشقنا الهواء .. الحمد لله وصلنا , ولكن أين نحن ؟!
_ هذه قرية قديد , وهذا مكان لإصلاح  السيارات , انتظروا حتى بزوغ الفجر .         أخذ السائق أجرته وأنزل النعامة وانصرف .
  أما نحن فلا ندري أين نحن ،  ركبنا النعامة وأغلقنا الأبواب و النوافذ تحسباً لدواب الأرض وهوامه , نلهج بالدعاء و نرتقب المجهول , غطّ البعض في سبات ، وانحنت بعض الرؤوس على الأكتاف ,
_ الله أكبر الله أكبر ... نداء الفجر المنشود وكأنه نداء الأمل من بعيد , لا نرى مسجداً  بجوارنا , الله أكبر .. ما أطول هذا الليل .. الفجر دائما ًيحمل معه الفرج والأمل ,          لا مسجد هنا , سنتوضأ ونصلي هنا و ننتظر حتى يسفر الصبح و يتنفس .
_ خرجت الطيور من أعشاشها و الدواب من  أوكارها تعلن عن صبح جديد , الشمس تشرق على وادي قديد , بأشعتها الذهبية , ترسل شعاعها إلينا  و هي تنتشر فالأفق شيئاً فشيئاً , تتضح معالم قديد , أسوار هناك و بيوت هناك , و طريق غير معبد يوصل إلى الطريق السريع الذي يبعد حوالي 300 متر .
_ يقبل فني السيارات ( المكانيكي )  وهو يجر خطاه نحو "الورشة "  يفتح الباب المتهالك المتآكل ، أدوات قديمة هنا و هناك . أخبرناه بأمر النعامة ليصلحها ، و بالقصة ليشفق علينا.
_ أدخلها و وضعها  أعلى الحفرة في وسط " الورشة "  ثم نزل ليتفحصها , قلب النظر فيها فعلم داءها و دواءها , ولكنه أشفق هو الأخر علينا , أقبل إلينا و قد أقبلنا إليه بأسماعنا و أبصارنا و أفئدتنا , مابها يا عم ؟ كانت إجابته موجزة : (الجرابوكس ) نفذ منه الزيت ، لقد تآكل الحديد ، عليكم بشراء زيت الجرابوكس من المكان المجاور هناك ، فلعله يفيد ..
أحضرنا الزيت ، فملأ به الجرابوكس ، والتفت إلينا قائلا : أشغل المحرك ، وحرك القابض .. إنه الأمل الأخير ،، والتجربة الأخيرة ، دخل أبو ياسر السيارة ، ووضع المفتاح في موضعه وهو يتمتم ، أدار المفتاح ووضع يده على المقبض ( التعشيق ) حاول تحريكه .. حاول وحاول ..  لا فائدة ، النعامة لا تستجيب .. ونحن وقوفٌ عن يمين النعامة وعن شمالها ، عبدالله لم ييأس بعد لا يزال يقول : أبو ياسر حاول .. أعد المحاولة وسم الله .. لعل الزيت لم يصل بعد ...
محاولات ميؤوسة ،، فني السيارات ينظر إلينا بشفقة ، يتركنا ونحن نحاول فعل المستحيل ، حتى إذا استيأس الشباب ، وظنوا أن لا حل ينفعهم ، وقد باءت كل المحاولات بالفشل ، قال لنا مرتضى الفني : لابد من ( جرابوكس ) آخر ، ويمكنكم شراءه من هنااك ، وأشار بيده نحو الصحراء هناك على بعد خمس وعشرين ميلا ، في منطقة تسمى خليص .
سأله عبد الرحمن ساكو .. وكيف نذهب إلى هناك ؟
فأخرج هاتفه واتصل برجل من أهل خليص ، حدثه بالوجهة والأجرة ، وأن يحضر مسرعا بسيارته العرجاء  ..
أقبلت نحو الشباب لأشد من عزمهم ، وأربط على قلوبهم ، لأنني أمير القافلة ولابد أن أكون أكثرهم صبرا وجلدا وأربطهم جأشا ، وفي مثل هذه المواقف لابد من دعم الاقتصاد ؛ لأننا في صدد شراء أداة محرك آخر ( جرابوكس ) توفي بالغرض ، يلزمنا دفع المزيد من المال من أجل النعامة  بادر الشباب بإخراج ما يملكون من المال .. حتى اكتفينا ..
فني السيارات منهمك في إخراج ( الجرابوكس ) القديم ، لنذهب به ونحضر مثله ..
وصل صاحب المركبة العرجاء العوراء ، المهم أنها تسير ، سيارة بغمارة واحدة ( ونيت ) ، والسائق طاعن في السن ، ضعيف السمع ، نشك في أنه يستطيع قيادة المحرك ، المهم أن السيارة تسير ، وتستطيع أن توصلنا إلى خليص .
ركبت أنا كوني أمير القافلة ، وصاحب النعامة أبو ياسر  و أبو فارس ، أما البقية فيرافقوننا بدعواتهم وينتظرون قدومنا بالفرج والأمل .
انطلقنا - والهواجس تعبث بنا – إلى( التشليح ) بخليص ، قطع مستعملة قديمة بنى فيها العنكبوت مدائن وقرى ، وقد وقع الذباب في شراكه هنا وهناك ..
بدأنا نتجول بحثا عن قطعةٍ كالتي معنا .. أشار لنا أحدهم إلى مكان بأقصى ( التشليح ) ، اتجهنا مباشرة نحو ذاك المكان ، فكان كما قال ، وجدنا ضالتنا عند هذا الرجل المتردد ، يلقي نظرة على ( الجرابوكس ) الذي معنا ، وأخرى على الذي معه ، كأنه يقارن بينهما ، عدد المسامير هنا وهناك ، ويسألنا عن نوع السيارة وتاريخها ،،، قرر أخيرا أنه هو بعينه ، تفاضنا معه في السعر فكان زهاء الألف ريال ، خفضنا ربع السعر ، وأخذنا ضالتنا ، وها نحن عائدون إلى ( وادي قديد ) نحمل معنا البشرى لبقية الشباب الذين ما فتئوا يتصلون بنا لمعرفة الجديد ، الشمس تسبقنا ، والحر يلفحنا ، والقلق يرافقنا ...
وصلنا إلى فني السيارات وقد استدعى مساعده ؛ ليعاونه في تركيب الجرابوكس في مكانه ، ونحن ننظر وننتظر الإذن بالانطلاق نحو المدينة المنورة ..
الشمس تتوسط السماء ، بل زالت نحو الغرب قليلا ، وضع القافلة مزرٍ لو تأملت حالهم ، إسماعيل متكئ هناك وقد أخذه النعاس ، عبد الله وعبد العزيز وضعا سجادا على الأرض وارتميا عليه ، الساكو داخل السيارة في حالة إغماء شديد ، بقيتُ مستيقظا أراقب .
توجهت تلقاء الطريق السريع ، نحو المحطة لأشتري شيئا من الشطائر والعصائر والماء ، فالشباب لم يتذوقوا شيئا منذ البارحة ، وقد عدت إليهم وأيقظتهم وجعلت أناولهم الشطائر والعصائر ...
أرى أبا ياسر تظهر عليه أمارات اليأس واضع يده على خصره ، أبو فارس متكئ على النعامة ورأسه إلى الأعلى يحوقل ويسترجع ..
مرتضى ( فني السيارات ) واقف بجوارهم ، ينظر إليهم نظرة الحائر ، لم أعلم بالخبر بعد ، ولكن المنظر لا يبشر بخير ، أبو فارس ينظر إلي ويقول :  القطعة ( الجرابوكس ) التي أحضرناها ليست لنفس نوع السيارة ، إنها لنوع آخر .. نزلت هذه الكلمة كالصاعقة علينا ، اجتمع الشباب تاركين بقية أكلهم خلفهم : يا عم مرتضى .. أرجوك حاول لا بد أن هناك مشكلة .. الشكل واحد .. وأنا أضيف : لقد أخبرَنا البائع أنها لنفس نوع السيارة ، نزل مرتضى أسفل السيارة ليرينا الفروقات حتى تطمئن قلوبنا لما يقول ، المقاس أكبر بقليل ، بدأنا كالعادة نقترح حلولا .. حاول تركيبها بأي طريقة مبتكرة ، وكان أغرب حل طرح هو ما قاله عبد الله بكل براءة : لماذا لا تقطع الجزء الزائد من ( الجرابوكس ) حتى يكون على نفس المقاس ، أخفى مرتضى ضحكاته ، وقال : ذاك مستحيل يا أخي ....
انتهت الحلول ونفذت الاقتراحات ، لا حل أمامنا الآن ..
اجتمعنا لتحديد المصير بعد أن أدينا صلاة الظهر والعصر جمع تقديم ، قررنا بعد الاجتماع أن يعود أبو ياسر ومعه عبد العزيز إلى مكة مرورا بخليص لإعادة القطعة ( الجرابوكس ) والنعامة على حاملة السيارات ( السطحة ) ، متوجهين إلى تشليح مكة لشراء قطعة أخرى وتركيبها ثم العودة إلى المدينة .
يبقى من القافلة خمس يركبون سيارة أجرة إلى المدينة المنورة ، لننتظرهم هناك ، المهم أن تتم هذه الرحلة .
وبالفعل ... غادر أبو ياسر وعبد العزيز وركبا ( السطحة ) التي تحمل النعامة إلى مكة ، وتوجهنا نحن إلى الطريق السريع للتوجه نحو المدينة .
الساعة الآن الرابعة عصرا ، والشمس تهرول نحو الغروب ونحن على حافة الطريق نلوح بأيدينا كالمستغيث ، علّنا نحظى بسيارة توصلنا إلى المدينة المنورة ، نلوح بأيدينا كلما اقتربت مركبة منا ، فتمر كالبرق لا تلتفت إلينا ، والشمس مسرعة نحو الغروب ، ولا نزال نمد أيدينا نحو المارين .. ثم تناوبنا الوقوف ... ولكن .. لا حياة لمن تنادي .. الكل يمر سريعا ، لا أحد يلتفت إلينا ..
كنت أنظر إلى الشمس وأقول :
ألا يا شمس هلاّ قد وقفتِ ** فويلي ثم ويلي إن رحلتِ
لئن حل الظلام بنا فإنا ** سنصبح ها هنا من غير قوتِ
فمن يا شمس في دلج الليالي ** يرانا إن رحلت وإن غربتِ
لأنه لا أحد سيقف لمساعدتنا في الليل الحالك , وسنبدو  كالجن في ظلمة الليل ، لا نزال نمد أيدينا نحو السيارات ... للأسف لا أحد يقف , مالت الشمس إلى الغروب , والهم يكاد يهجم على قلوبنا .
اختفى نصف قرص الشمس , واصفر لونها , وعادت الطيور إلى أعشاشها ، وخرجت الوحوش من أوكارها ، وبدأنا نسمع صوت الليل ..
وفجأة .. يتوقف أحد المسافرين , لم يطل الكلام بيننا , إلى المدينة ؟ نعم إلى المدينة .
وضعنا حقائبنا مستبشرين مسرعين وانطلقنا .
لم يتجاوز السائق ميلين إلا و انحنت الرؤوس , إنه الإغماء الجماعي , السائق مذهول , ما هذا النوم العجيب ؟ قالا لي: لابد أنكم متعبون , فقصصت علية طرفاً من القصة باختصار شديد , ثم أغمي علي ولم أستفق إلا بجوار مسجد رسول الله ..
 توجهنا إلى السكن المتفق عليه نجر خطانا ، متعبون شعث غبرْ ..
 و المسجد النبوي قريب منا نوعا ما .
نظرت إلى الساعة ! إنها الحادية عشرة ليلاً , يا إلهي كم أستغرق سفرنا , أربعة وعشرون ساعة بين مكة و المدينة , الحمدلله على كل حال .
وفي الجانب الآخر ..
وصل أبو ياسر و عبدالعزيز إلى مكة بعد مرورهم بخليص وإعادة القطعة واستعادة النقود ، وكانت وجهتهم نحو ( التشليح ) مباشرة ، يبحثون عن القطعة المناسبة ، من مكان لآخر ، ولحسن الحظ فلم يستغرق البحث طويلا حتى وجدوا ضالتهم ، وبالفعل هاهو فني السيارات يبدأ بالعمل ، فقد يستغرق ساعة ونصف أو ساعتين في العمل ..
وهما ينتظران ... غلبهما النعاس وهما على ذاك الحال ، قعود ينتظرون ، لم يستفيقا إلا على صوت النعامة وقد استعادت قواها وهي تعمل بشكل جيد ، ارتقى أبو ياسر ظهر النعامة فإذا هي كسابق عهدها ، قوية صلبة ...
أخرج من جيبه النقود وأعطى فني السيارات ثمن القطعة وأجرة التركيب .
وركب النعامة بسم الله مجريها ومرساها ، وبدون تفكير إلى المدينة من جديد ..
عقارب الساعة تقترب من الحادية عشرة والنصف ليلا ..
وانطلقت النعامة من جديد محلقة إلى المدينة المنورة ، لم يدرك أبو ياسر أنه منذ أربعة وعشرين ساعة لم يتذوق طعم النوم أو الراحة ،إلا دقائق لا يتذكرها بين النعاس والسِنة ، نعم يوم كامل بلا نوم ، لكنه كان متيقظا منتبها للطريق ..النعامة تنطلق .. وبعد مئة ميل تقريباً حيث وقفت النعامة أول مرة ..
بدأت النعامة من جديد ترتجف وترجف ، أبطأ سيرها ، وبان عرجها ، قرر أبو ياسر أن يقف عند أول محطة في طريقه ، وفي المحطة توجه نحو ( فني السيارات ) مباشرةً ،
ألقى نظرة على النعامة فوجدها تحتاج إلى تنظيف ( بخاخ الهواء ) الذي تأثر بالأغبرة والأتربة  فأزال عنها الأذى ، نصف ساعة انتظار ، وتعود النعامة كالليث مرة أخرى ...
انطلقا نحو المدينة التي أصبحت أبعد من مغرب الشمس ..
انطلقا وانطلقا .. النعامة تسير نحو المدينة ، لكنها أصبحت تترنح يميناً وشمالا .
عبد العزيز أرجع ظهر مقعدته إلى الخلف وراح ينسج أحلامه الوردية ، أبو ياسر يقاوم النعاس ويقاوم ، يحاول أن يبقي عينيه مفتوحتين ولكن النوم سلطان ،
يمر بجوار محطة فيميل نحوها مباشرة ، توقف بجوار المسجد هناك ، وأنزل ظهر مقعدته هو الآخر واستسلم للنعاس وارتاح من عناء يوم طويل .
وفي المدينة يعلو نداء الفجر ... " الله أكبر الله أكبر " فيستيقظ أمير الرحلة ويوقظ البقية لأداء صلاة الفجر في المسجد النبوي ومن ثم زيارة قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، والمكوث في المسجد حتى الإشراق ..
عبدالرحمن ساكو : يتصل بهاتفه على عبدالعزيز مراراً الجوال مغلق , اتصلنا على هاتف أبي ياسر يجيب بصوت متحشرج ممتلئ نوماً .
أين أنتم ؟
_ في طريق المدينة , استرحنا من عناء السفر في محطة قريبة ونحن قادمون بإذن الله .
فانطلقا حتى إذا  وصلا إلى أول مسجد أسس على التقوى , فجعلها أول قبلته ووجهته, نزلا قباء وصلا فيها ركعتين , وعادا إلى النعامة التي أبت أن تغادر قباء , يا إلهي مرة أخرى ! نعم مرة أخرى تقف النعامة , ولكن خبرة أبو ياسر في السيارة القديمة أسعفته فدفعها بطريقة تقليدية حتى أشتغل المحرك فانطلق ولم يقف إلى بجوار المنزل الذي نزلنا فيه , بيت شعبي بجوار الحرم بسعر زهيد , حمداً لله على السلامة يا أبطال .
إلى الراحة يا شباب فسنصلي الظهر في المسجد النبوي , ومن ثم نتناول الغداء الذي يناسبنا فقد اشترينا بعض المواد الغذائية لأننا سنتعلم الطهي بأنفسنا في هذه الرحلة مع الشيف " أبو فارس " السيسي  الذي كاد أن يقتلنا بالملح وعبدالله فلاته المتسرع دوماً , وأما عبدالرحمن ساكو و إسماعيل فهم متخصصون في المشروبات الساخنة , و أبو مراد الأمير بارع كعادته في  التذوق , و للبقية الأكل .
وبعد العصر عزمنا على القيام بنزهة أو زيارة للأثار النبوية , وما ان ارتقينا النعامة حتى استعصت وأبت أن تتحرك ،  دفعناها بالطريقة التقليدية " النتع " لم تستجيب , دفعنها إلى أحد الأحواش القديمة ندفعها ونحاول تشغيلها ذهاباً وإياباً والنعامة لا تستجيب , حتى اغبرت أقدامنا , الناس يمرون علينا و ينظرون بدهشة ! ماذا يصنع هؤلاء ؟ مكثنا على هذا الحال ساعة أو تزيد قليلاً ، لا نزيد أن نستسلم ،، ولكن بعد ساعة مللنا من الموقف وتسلل اليأس إلى قلوبنا .. أواااه ماذا تريد هذه النعامة منا ؟؟
علا صوت المؤذن لصلاة المغرب ، فانطلقنا إلى السكن وتهيأنا للمغرب و العشاء في مسجد رسول الله صل الله عليه وسلم،  حتى نخفف عن أنفسنا هذا الهم الذي أثقل كواهلنا وسلب ابتساماتنا وضحكاتنا ,يا إلهي .. النعامة ثانيةً ،، اللهم سلم سلم.
وبعد العشاء تجاهلنا أمر النعامة ورحنا نسمر ونقطع أوقاتنا بالمرح و القصص المسلية , نتصانع الضحك والفرح ، نحاول أن نزيل العبوس عن وجوهنا ، نضحك بصوت مرتفع تخفيفا على مافي القلوب .. تناولنا العشاء البسيط الصحي , ثم اتفقنا على عدم الافتراق أو التسلل من المجموعة إلا بإذن من الأمير .وهاهي عقارب الساعة تقترب من الحادية عشرة , قام الأمير و طفأ الأنوار هيا إلى النوم فالصباح ينتظرنا , إسماعيل عبده كالعادة أول من يستلم النوم , أبو ياسر و عبدالله فلاته يهمسان برفق ثم يغطّان في نوم عميق لم يتبقى سوى الأمير " أبو مراد " وأبو فارس ، والساكو وعبدالعزيز , نام الأمير وذهب ينسج أحلامه .. علا صوت الشخير من شدة التعب ، هذا يبدأ وذاك يتبعه ..
انتصف الليل ... وفي الساعة الثانية عشرة و النصف ...و برفق شديد يتسلل السيسي والساكو و عبدالعزيز إلى المطبخ يجهز الساكو مشروباً ساخناً ,وأبو فارس يتظاهر بأنه يريد الخلاء ،  إنه أمر دبر بليل من ثلاثي التمرد .
في برهة من الليل خرج ثلاثي التمرد من السكن, إلى حافة الطريق المؤدي إلى المسجد النبوي يشربون ويسمرون ..  السكون يحيط بهم , إضاءات المحلات التجارية مطفأة الساعة الواحدة لأحد في المكان سواهم وهم جلوس على حافة الطريق ، تمر سيارة الشرطة وتعود ، ينظر إليهم الشرطي و يهمس إلى صديقة وكأنه يقول ما يفعل هؤلاء في جوف الليل هنا ؟ أترى هم لصوص ؟ أم ماذا ؟
لم يعرهم أحد اهتمامه , الساكو شعر بتوتر , همّ  بالانسحاب لولا أن عاتبه السيسي هل أنت جبان ؟ لم تفعل شيئاً فلم الخوف ؟ وفي الجولة الثالثة وقف عربة الشرطة ونزل شرطيان : ماذا تفعلون هنا ؟ أجاب السيسي : نسمر فقط
الشرطي و بنغمة تعجب : تسمرون .....ما رأيكم أن تكملوا  هذه السمرة في ضيافتنا ؟ اركبوا معنا .
أخذهم الشرطيان إلى مخفر الشرطة إلى التوقيف , وقد بدا الهم على الشباب والندم على هذه الفعلة التي فعلوها ,  الشرطي : ابحثو عن أحد يكفلكم و يخرجكم بكفالة حضورية .
الساكو : نحن لا نعرف أحد هنا , وبدأ التوسل يحذو حذوه وهم ماهرون في ذلك ,  عقارب الساعة الساعة تقترب من الثالثة وسلسلة التوسلات التي انهالت على الشرطي لم تجد نفعاً.
يبدو أن الشرطي كان محقاً عندما قال ستسمرون معنا الليلة .
وقبل أذان الفجر سمح لهم بالرحيل مهدداً متواعداً بالعقاب فالمرة المقبلة إذا تكرر منهم ذلك خرج الثلاثي : السيسي و الساكو و عبدالعزيز ولكن على بعد خمس كيلو متر من المسجد النبوي نعم خمس كيلو متر , الوضع المالي لا يسمح لركوب " سيارة ,أجره " فستمروا عن ثيابهم أطلقوا أرجلهم للريح حتى يدركوا السكن قبل أذان الفجر وقبل أن يستيقظ الأمير وهم غائبون فيسأل عنهم .

سباق بينهم وبين الزمن , وقبل وصولهم للسكن بقليل صدح المؤذن لصلاة الفجر , ومن حسن حظهم أن الجميع يغط في نوم عميق , أيقظوا البقية و كأنهم كانوا نيام ....
و تعاهد الثلاثة ألاّ يخبروا أحداً ...  ( فكان كذلك حتى كتابة هذه القصة )
استيقظ الجميع وتهيوا للصلاة في مسجد رسول الله , والسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم .
وبعد الإشراق توجهنا إلى السكن فما كان من الثلاثة الذين خلفوا إلا أن وضعوا رؤوسهم و غابوا في سبات عميق , وتبعهم البقية .
 بقي أبو ياسر مستيقضا مهموما يفكر في أمر النعامة ، فغادر السكن متجها نحو النعامة ، يسأل عن أقرب مكان لإصلاح السيارات ، ولحسن حظه لم يدم البحث طويلاً حتى وجد ضالته ، فأحضر معه فني السيارات ، فلما أقبل وتفحص النعامة بشره بخير وأخبره بأن الأمر يسير ، ولا يستحق كل هذا القلق البادي على وجهه ، هي قطعة صغيرة فقط ، لا يتجاوز ثمنها ثلاثون ريالاً ، اتصل بي أبو ياسر وأحضرنا القطعة ، وبالفعل لم يمضي من الوقت الكثير إلا وأصلح الفني النعامة واستعادة نشاطها .
وتنفسنا الصعداء ..
دبت الحياة من جديد وعاد إلينا بصيص الأمل ، قضينا يومنا بين المزارات والمنتزهات نمرح ونضحك ، حتى نفد المال اليسير ، ولم يبق سوى القليل ..
اتصل الأستاذ عثمان موسى وكان قريب عهد بعرس فطلب بعض المشروبات الساخنة ولما رأي حالنا كأنه شعر بنا , فأخرج مبلغاً من المال ليس باليسير وأعطاها لأحد الشباب  وحتى لا يشعر بالحرج قال له : أعدها إلي إذا رجعتم مكة .
اقتصدنا في كل شيء في المأكل والمشرب وكل ما يكلف مبلغا من المال , إلا في التنزه والمتعة.
النعامة بخير الآن ... لذا سنمضي إلى مكة لأننا نشعر بأن النعامة تحتضر ..
يوم واحد إضافي .. ضعف الاقتصاد , فالوضع الاقتصادي في تدهور , قررنا السير والعودة إلى مكة , خوفاً أن تأبي النعامة من جديد , فلم تعد مصدر أمان ..
 وفي السكن ونحن نستعد للعودة إلى مكة , أخرج أبو فارس السيسي مبلغاً من المال وقال هذا من الأستاذ عثمان موسى لدعم الاقتصاد المنهار .. فكان دعمًا في أوانه ...
ارتقينا النعامة " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون "( آيبون تائبون لربنا حامدون ) .. إلى مكة أيتها النعامة .. ولا أحد يعلم ما تخفيه لنا النعامة من مفاجآت .
حالنا كحال المتربص المنتظر المترقب ..
النعامة تسير سيرا معتدلا .. نمر على ميقات المدينة ( أبيار علي ) ونتجاوزه بكل أمان ..
وبعد أن تجاوزنا خمس وسبعين ميلاً عن المدينة توقفنا عند إحدى المحطات لنتزود بالوقود والغذاء ، وأداء صلاة المغرب والعشاء جمعا .. فأمامنا ليل طويل .
انطلقنا والهم يصاحبنا ، الكل متيقظ منتظر ما تخبئه النعامة من مفاجآت ، قطعنا نصف المسافة ولا تزال النعامة متماسكة ، تحلق كأول عهدها ...
وعندما اقتربنا من مكة قاب قوسين أو أدنى تهللت الوجوه , وتعالت الضحكات ، وبدأنا نتذكر كل تلك المواقف التي كانت ترافقنا في هذه الرحلة ( القلق – الخوف – الهم )
وتصل النعامة إلى مكة بعد عناء طويل وسفر شاق تعلمنا فيه الكثير والكثير ...
وأيقنت فيه أن السفر قطعة من العذاب . .. وأن لكل شدة زوال ..
وأن الأيام حبلى بالمزيد والمزيد ..
ثم وليت عنهم وأنا أردد ..
أَقسمت بالله لن أرقى نعامتكم ** يوما من الدهر في باقي سِفاراتي
وانتهت الرحلة ولم تنته المغامرات ..

                                                                بقلم
                                                                محمد مدهير الجابي
                                                           



[1] هي القرية التي حدثت بها قصة أم معبد مع النبي صل الله عليه وسلم في طريق هجرته وكانت تسمى وادي قديد.

الاثنين، 5 أكتوبر 2015

قصيدة ابنة البردة

ابنة البردة

هبت رياح الصبا من ساحة الحرم ** فهاجت النفس بالأنغام والحكم

ورنم الطير في الآجام ألحانا  ** فلتطرب القوم يا طيرا على الأجم

وروحِ النفس واطربها بأغنيةٍ ** تصور الحب بالأخلاق والشيم

والحب يقتل أقواما ويوجدهم ** والحب كالروح يحيي كل ذي نسمِ

ومن يعيش بال حب فليس له ** من الحياة سوى مرا من الأدم

عين الحياة وعين الحب واحدة ** تصب في نفس ولهان ومغترم

والنفس إن عوّدت حب الهوى تهوى ** والخير إن ألزمت النفس تلتزم

والنفس لا تهتدي إلا إذا امتلأت ** حب النبي وحب الصادق العلم

حب الذي قد أتى الناس في سفه** كل له ربٌ يفديه بالنعم

فإن مررت بهم .. أدركت مقصدهم ** هذا إلى وثنٍ هذا إلى صنم

وذا يواري بكفيه بُنيّته ** خوفا من الفقر أو من لؤم ملتئم

وذا يدور بكأس الخمر ملتطما ** بالصبح مكبولٌ .. ثملٌ من الغسم

فأصبحت مكة الغراء موحشة ** كالفلك في البحر بالأمواج تلتطم

حتى أتاها سحاب الخير فارتجّت ** أركان كسرى .. وجاء البشر بالنعم

والجن قد منعت من كل مسترق ** من السماء وقد ملئت من الرجم

والنار قد خمدت .. قبحا لعابدها ** من المجوس فلا نارٌ ستضطرم

قد أدرك الناس منهم يوم مولده ** بأن دينهم المعوج لن يدم

كأنه الصبح بعد الليل يفلقه ** كأنه البدر في داج من الظلم

كأنه الغيث أحيا أرض ميتة ** كأنه الروح يحيي كل ذي نسم

قد لقبوه أمينا قبل بعثته ** وما أمين على زورٍ بمتهم

فسل حراء عن الهادي وخلوته ** وسل حراء عن الآيات والحكم

ومن حراء أتاه الروح يسأله ** اقرأ محمد لا تخشى ولا تهم

اقرأ محمد بسم الله معتصما ** فليس يخسر من بالله يعتصم

لما أتيتَ رسول الله فانقشعت ** سحائب الجهل في طياتها الظلم

أخرجت قومك من وحل الظلام إلى ** نور الهداية بالأخلاق والقيم

يا أحسن الخلق في خَلق وفي خُلق ** لمنك ينبع بحر الجود والكرم

يا أجمل الخلق حسنا في تعامله ** حويت كل خصال الخير والعظم

يا صاحب الحوض في الأخرى إذا ازدحمت ** كل الخلائق من عرب ومن عجم

يا شافعا كلنا نبغي شفاعته ** يوم الكروب وهول الخطب والعمم

يا أحسن الخلق في الدنيا بسيرته ** عجز البيان وقول والشعر يزدحم

لو صير البحر حبرا في مدائحه ** لأصبح البحر في يوم من العدم

يا أروع الخلق لي فخرٌ بتسميتي ** محمد .. ومن برسول الله يتّسم

وصلِ رب وسلم دائما أبدا ** على النبي وخير الخلق كلهم

وصل رب عليه كل مبتدئٍ ** وصل رب عليه كل مُختتمِ

                                   محمد الجابي 2/2/ 1424هـ