الفصل التاسع عشر : حديث القاتل والمقتول في النار
المبحث الأول : الحديث
4481 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِىُّ
حَدَّثَنَا أَبِى حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ عَلْقَمَةَ
بْنَ وَائِلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ إِنِّى لَقَاعِدٌ مَعَ النَّبِىِّ
-صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُ آخَرَ بِنِسْعَةٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ هَذَا قَتَلَ أَخِى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَقَتَلْتَهُ
». فَقَالَ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ. قَالَ نَعَمْ.
قَتَلْتُهُ قَالَ « كَيْفَ قَتَلْتَهُ ». قَالَ كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ
شَجَرَةٍ فَسَبَّنِى فَأَغْضَبَنِى فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَى قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- « هَلْ لَكَ مِنْ شَىْءٍ تُؤَدِّيهِ
عَنْ نَفْسِكَ ». قَالَ مَا لِى مَالٌ إِلاَّ كِسَائِى وَفَأْسِى. قَالَ « فَتَرَى
قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ ». قَالَ أَنَا أَهْوَنُ عَلَى قَوْمِى مِنْ ذَاكَ. فَرَمَى
إِلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ. وَقَالَ « دُونَكَ صَاحِبَكَ ». فَانْطَلَقَ بِهِ الرَّجُلُ
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ
مِثْلُهُ ». فَرَجَعَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ قُلْتَ
« إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ ». وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- « أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ
». قَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ - لَعَلَّهُ قَالَ - بَلَى. قَالَ « فَإِنَّ ذَاكَ كَذَاكَ
». قَالَ فَرَمَى بِنِسْعَتِهِ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وفي رواية
فَانْطَلَقَ
بِهِ وَفِى عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرُّهَا فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- « الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِى النَّارِ ». فَأَتَى رَجُلٌ
الرَّجُلَ فَقَالَ
لَهُ مَقَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ -r - فَخَلَّى
عَنْهُ.
تخريج الحديث:
ومسلم (3/1307) برقم (1680), وأيضا (4/ 2213-
2231) برقم (2888 – 2908), والنسائي (8/15) برقم (4727) وفي الكبرى (6/325) برقم (6902), أحمد (4/401) و(5/43 – 46- 48), وأيضا
(6/2520) برقم (6481), وأبو داود (4/166) برقم (4270),
درجة الحديث : صحيح ورواه مسلم
.
المبحث الثاني : المشكل في الحديث
كيف يأمر النبي r الرجل أن يقود قاتل أخيه
، ثم يقول : القاتل والمقتول في النار
" و قد أخذه الرجل بأمر ؟ ثم ما ذنبه ليكون في النار ؟ وما سبب اختلاف
الروايات في الحديث ؟
المبحث الثالث : توضيح الإشكال
قال القرطبي رحمه الله تعالى، ظاهره إن قتله كان
عليه من الإثم ما على القاتل الأول , وقد
صرح بهذا في الرواية الأخرى التي قال فيها : "القاتل والمقتول في النار
" , وهذا فيه إشكال عظيم , فإن القاتل الأول قتل عمداً , والثاني قصاصاً ,
ولذلك لما سمع الولي ذلك ,قال : يا رسول الله قلت : ذلك وقد أخذته بأمرك فاختلت
العلماء في تأويل هذا على أقوال :
الأول : قال الإمام أبو عبد الله المازري : أمثل
ما قيل فيه : أنهما استويا بانتفاء التباعة عن القاتل بالقصاص .
قال القرطبي : وهذا كلام غير واضح , ويعني به –
والله اعلم- أن القاتل اذا قتل قصاصاً , لم يبق عليه تبعة من القتل والمقتص لا
تبعة عليه ؛ لأنه استوفى حقه , فاستوى الجاني والولي المقتص في أن كل واحد منهما
لا تبعة عليه .
الثاني : قال القاضي عياض : معنى قوله (فهو مثله)
: أي قاتل مثله , وإن اختلفا في الجواز والمنع , لكنهما اشتركا في طاعة الغضب ,
وشفاء النفس لاسيما مع رغبة النبي e في العفو , على ما جاء في
الحديث .
قال
القرطبي : والعجيب من هذين الأمامين , كيف قنعا بهذين الخيالين , ولم يتأملا مساق
الحديث وكأنهما لم يسمعا قول النبي e حين انطلق به يجره ليقتله:
" القاتل والمقتول في النار " وهذه الرواية مفسرة لقوله في الرواية
المتقدمة : " إن فتله فهو مثله" ؛ لأنها ذكرت بدلا منها , فعلى مقتضى
قوله : "فهو مثله " : أي هو في
النار مثله , ومن هنا عظم الإشكال , ولا يلتفت لقول من قال : إن ذلك إنما قاله e للولي لما علم منه من معصية
يستحق بها دخول النار ؛لأن المعصية المقدرة إما أن يكون لها مدخل في هذه القصة أو
لا مدخل لها فيها , فإن كان الأول , فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبيّنها ,ونعرف
وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد , وإن لم يكن لها مدخل في تلك القضية , ولم يلق
بحكمة النبي e , ولا ببلاغته , ولا ببيانه
أن يذكر وعيدا شديدا في قضية ذات أحوال وأوصاف متعددة , ويقرن ذلك بتلك القصة ,
وهو يريد أن ذلك الوعيد إنما هو لأجل شيء لم يذكره هو و لا جرى له ذكر من غيره ,
ثم إن المقول له ذلك ,قد فهم أن ذلك إنما كان لأمر جرى في تلك القصة , ولذلك قال
للنبي e : تقول ذلك , وقد أخذته بأمرك
؟ , ولو كان كما قاله هذا القائل ؛ لقال له النبي e إنما قلت ذلك للمعصية التي
فعلت, أو الحالة التي أنت عليها ,لا لهذا , ولم يكن ليسكت عن ذلك ولبادر ببيانه في
تلك الحال , لأن الحاجة له داعية , و النصيحة , والبيان واجبان عليه e .والله تعالى اعلم .
الثالثة : أن أبا داود روى هذا الحديث من طريق أبي
هريرة رضي الله عنه وقال فيه : قتل رجل على عهد رسول الله e فرفع إلى النبي e ,, فدفعه الى ولي المقتول ,
فقال القاتل : يا رسول الله , والله ما أردت قتله , فقال رسول الله e للولي : "أما إنه إن
كان صادقا ثم قتله دخلت النار " , فحاصله أن هذا المعترف بالقتل زعم انه لم
يرد قتله , وحلف عليه , فكان القتل خطأ , فكأن النبي e خاف أن يكون القاتل صدق
فيما حلف عليه , وأن القاتل يعلم ذلك , لكن سلّمه له بحكم إقراره بالعمد , ولا
شاهد يشهد له بالخطأ ,و مع ذلك , فتوقّع صدقه , فقال : " إن قتلته دخلت النار
" , فكأنه قال : أن كان صادقا , وعلمت أنت صدقه , ثم قتلته , فأنت في النار ,
وهذا على ما فيه من التكلف يبطله قوله :
" القاتل , والمقتول في النار " فسوى بينها في الوعيد , فلو كان القاتل
مخطأ لَما استحق بذلك النار , ولما باء بإثمه , واثم صاحبه , فإن المخطئ لا يكون
آثما , ولا يتحمل إثما من أخطأ عليه .
الرابع : أن أبا داود روى هذا الحديث عن وائل بن
حجر رضي الله عنه , وذكر فيه ما يدل على أن النبي e قصد تخليصه , فعرض الدية ,
أو العفو على الولي ثلاث مرات , و الولي
في كل ذلك يأبى إلا القتل , معرضا عن شفاعة النبي e , وعن حرصه على تخليص
الجاني من القتل , فكأن الولي صدر منه جفاء في حق النبي e , حيث ردّ متأكد شفاعته ,
وخالفه في مقصود , ويظهر هذا من مساق الحديث , وذلك أن وائل بن حُجر رضي الله عنه
قال : كنت عند النبي e إذ جيء برجل قاتل , في عنقه
نسعة , قال : فدعا ولي المقتول , فقال : "أتعفو؟" قال : لا , فقال :
" أتاخذ دية ؟ " , قال : لا , قال : " أتقتل ؟" قال : نعم ,
قال : " اذهب به فلما ولى ,قال : " أ تعفو ؟ " , قال : لا, قال :
" أفا تأخذ الدية ؟ " , قال : لا , قال : " أتقتل ؟" قال :
نعم , قال : " اذهب به " , فلما كان في الرابعة , قال : " أما انك
إن عفوت عنه , يبوء بإثمه , وإثم صاحبه " , قال : فعفا عنه ,فهذا المساق يفهم
منه صحة قصد النبي e لتخليص ذلك القاتل , وتأكد
شفاعته له في العفو , أو قبول الدية , فلما لم يلتفت الولي الى ذلك كله صدرت منه e تلك الأقوال الوعيدية
مشروطة باسمراره على لجاجه , ومضيه على جفائه , فلما سمع الولي ذلك القول عفا ,
وأحسن , فقُبل , وأُكرم وهذا أقرب من تلك التأويلات , والله أعلم بالمشكلات ,
وهذا الذي أشار إليه بن أشوع , حيث قال : إن النبي
e سأله أن يعفو , فأبى .
أقول : ومع كل هذه الأقوال لا يزال الإشكال واردا
، ولكن عندما ننظر في الروايات الواردة في الحديث نجد أن راوِ الحديث هو علقمة بن
وائل عن أبيه ، وقد روى عنه الرواة بصيغ متنوعة
في قول " القاتل والمقتول في النار " أو " إن قتله فهو مثله
"والروايات كما يلي:
الأولى : روى عنه سماك بن حرب الكوفي بقول "
إن قتله فهو مثله "[1] كما في
مسلم والنسائي وغيرهما.
الثانية : روى عنه جامع بن مطر البصري ، بقول :
" اذهب ، إن قتلته كنت مثله [2]"
كما في النسائي والطبراني وغيرهما .
الثالثة : روى عنه أبو عمر حمزة العائذي بقول :
" إن قتله فهو مثله [3]" .
رواه البزار في مسنده
الرابعة : روى عنه إسماعيل بن سالم الأسدي ، بقول
: " القاتل والمقتول في النار " كما في مسلم والنسائي . [4]
عندما نتأمل في هذه الروايات الثلاثة الأولى نجد
أن معانيها متقاربة ، بل المعنى واحد ،
والمبنى مختلف.
ولكن الرواية الرابعة تختلف في المبنى والمعنى
معاً، مع أنهم جميعا رووا عن علقمة بن وائل ،
إذا فالرواية الرابعة تعتبر رواية شاذة لأن الراوي إنما روى الحديث بالمعنى
الذي فهمه هو ، ومن المعلوم أن الأحاديث
تروى بالمعنى ، ولا خلاف في ذلك ، و لا شك
أن إسماعيل بن سالم ثقة قد وثقه جمع من النقاد ولكنه خالف الثقات في هذه الرواية .
ومما يؤيد هذا القول رواية عن غير علقمة وهي رواية
ثابت البناني عن أنس بن مالك وفيه " اذهب فاقتله فإنك مثله "[5] . كما في
سنن النسائي وابن ماجة والحديث صححه الألباني .
و بهذا يزول الإشكال و هذا هو القول الفصل في
المسألة والله أعلم .
المبحث الرابع : مجمل القول
أن الحديث برواية " القاتل والمقتول في النار
" رواية شاذة تفرد به إسماعيل بن سالم الأسدي ، لأنه روى الحديث بالمعنى الذي
فهمه هو . و الرواية الصحيحة هي " إن قتله فهو مثله أو أن قتلته كنت مثله
" والمعنى واحد هو أنهما سواء في أن كل واحد منهما أطاع غضبه ، وقد استوفى
القاتل حقه ولا فضل لأحدهما على الآخر، مع الفارق في الحكم فالأول ظالم والآخر بحق
، وهكذا يتضح معنى الحديث ويزول الإشكال إن شاء الله . والله أعلم .
محمد مدهير الجابي