الجمعة، 30 يناير 2015

توضيح الإشكال في حديث " لا تبدؤا اليهود ولا النصارى بالسلام "

  الفصل الحادي عشر : حديث لا تبدؤوا اليهود و لا النصارى بالسلام
  المبحث الأول : الحديث
قال الإمام مسلم رحمه الله :حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِى الدَّرَاوَرْدِىَّ - عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r  قَالَ « لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِى طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ ».

تخريج الحديث:
أخرجه أحمد (2/263 , 266 , 346 , 444 , 459 , 525), ومسلم (4/ 1707)
 برقم (2167 ) ورقم (5789), والترمذي (5/60) رقم الحديث (2700).
    



  المبحث الثاني : المشكل في الحديث
أليس الإسلام دين سلام فلم لا نبدأ الآخرين بالسلام ؟  أليس من الإيذاء أن  نضيق على غيرنا الطريق حتى نلصقه بالجدار كما قال بعضهم؟ كلما لقيناهم في الطريق ؟ فما المقصود بالحديث إذا ؟

  المبحث الثالث : توضيح الإشكال          
قل بعض العلماء أن النهي المذكور في الحديث إنما هو عن السلام و هو عند الإطلاق إنما يراد به السلام الإسلامي المتضمن لاسم الله عز وجل ، كما في قوله r  :" السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينهم " [1]. أخرجه البخاري في الأدب المفرد .
و مما يؤيد ذلك قول علقمة : " إنما سلم عبد الله ( يعني ابن مسعود ) على الدهاقين إشارة " . وهم الكفار .[2]
 أخرجه البخاري في الأدب المفرد  مترجما له بقوله : " من سلم على الذمي إشارة " . و سنده صحيح . فأجاز ابن مسعود ابتداءهم في السلام بالإشارة ، لأنه ليس السلام الخاص بالمسلمين ، و كذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إلى هرقل ملك الروم فلم يبدأه بالسلام الإسلامي، و إنما قال فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : من محمد بن عبد الله و رسوله إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى . أخرجه البخاري و مسلم و هو في " الأدب المفرد " ( 1109 ). " سلام على من اتبع الهدى "[3] . فقد بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلام مع أنه كافر ولكن  ليس هو السلام الإسلامي ..
 فكذلك يجوز أن يقال في السلام عليهم : كيف أصبحت ، أو أمسيت ، أو كيف حالك ، ونحو ذلك من الألفاظ .
وقال زين الدين في فيض القدير :
(لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام) لأن السلام إعزاز وإكرام ولا يجوز إعزازهم ولا إكرامهم بل اللائق بهم الإعراض عنهم وترك الالتفات إليهم تصغيراً لهم وتحقيراً لشأنهم ، فيحرم ابتداؤهم به على الأصح عند الشافعية وأوجبوا الردّ عليهم بعليكم فقط ولا يعارضه آية {سلام عليك سأستغفر لك ربي} وآية {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعملون} لأن هذا سلام متاركة ومنابذة لا سلام تحية وأمان (وإذا لقيتم أحدهم في طريق) فيه زحمة (فاضطروه إلى أضيقه)
 بحيث لا يقع في وهده ولا يصدمه نحو جدار أي لا تتركوا له صدر الطريق إكراماً واحتراماً ، وليس معناه كما قال القرطبي: إنا لو لقيناهم في طريق واحد نلجئهم إلى حرفة حتى يضيق عليهم .. لأنه إيذاء بلا سبب، وقد نهينا عن إيذائهم. ا.ه[4]
وقول الله تبارك و تعالى : " لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) " [5]. فهذه الآية صريحة بالأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين و لا يؤذونهم .
و أما مسألة  :هل يجوز أن يقال في رد السلام على غير المسلم : و عليكم السلام ؟
 فقد أجاز ذلك العلماء بشرط أن يكون سلامه فصيحا بيّنا لا يلوي فيه لسانه ، كما كان اليهود يفعلونه مع النبي r  و أصحابه بقولهم : السام عليكم . فأمر النبي r  بإجابابتهم بـ " و عليكم " فقط ، كما ثبت في " الصحيحين " و غيرهما من حديث عائشة .
فالنظر في سبب هذا التشريع ، يقتضي جواز الرد بالمثل عند تحقق الشرط المذكور ، فهذا التعليل يعطي أنهم إذا قالوا :" السلام عليك " أن يرد عليهم بالمثل : " و عليك السلام " ،    و يؤيده الأمر الآتي و هو  عموم قوله تعالى " وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا "[6] فإنها بعمومها تشمل غير المسلمين أيضا .
و مما يؤيد أن الآية على عمومها ما أخرجه البخاري في " الأدب المفرد و السياق له و ابن جرير الطبري في " التفسير " ( 10039 ) من طريقين عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : " ردوا السلام على من كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ذلك بأن الله يقول:"وإذا حييتم بتحية.." الآية  [7].
قال الألباني :  سنده صحيح  ، لولا أنه من رواية سماك عن عكرمة .
و يقويها ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لو قال لي فرعون : " بارك الله فيك " قلت : و فيك . و فرعون قد مات . أخرجه البخاري في " أدبه " ( 113 ) ، و سنده صحيح على شرط مسلم .[8]

  
المبحث الرابع :مجمل القول
أن المراد بالسلام هو السلام الإسلامي فحسب ، ويجوز أن نحييهم بغير السلام الإسلامي ،
 و المقصود بالتضييق عليهم هو أن لا نترك لهم صدر الطريق إكراماً و إعزازا ، وهو ما يسمى بلغة العصر : "أفضلية المرور"، أي إذا كان الطريق لا يتسع إلا لعبور شخص واحد، فلا يليق أن يقدم الكافر على المسلم ، لأن ذلك من مظاهر الإكرام والتقديم، وتقديم الكافر على المسلم تقديم للكفر على الإسلام .
ثم إن ديننا دين سلم وسلام ، والله يقول " وقولوا للناس حسنا " ولم يخص أحدا  ، فإن حسن التعامل مع الآخرين من سمات هذا الدين ، وإنه ورد أن النبي عاد يهوديا ، فكيف يكون القصد من الحديث ظاهره ، وعيادة اليهودي أعظم من هذا كله .
 والله أعلم ..

                                                           الكاتب : محمد مدهير الجابي




[1] " الأدب المفردالمؤلف : محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفيالناشر : دار البشائر الإسلامية - بيروتالطبعة الثالثة ، 1409 - 1989
 الأدب المفرد " ( 989.
[2] الأدب المفرد حديث رقم (1104).
[3] البخاري كتاب بدء الوحي برقم 7
[4] فيض القدير شرح الجامع الصغير المؤلف : زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي المناوي (جـ6/ 501)
[5] الممتحنة آية 8
[6] النساء آية 86
[7] الأدب المفرد برقم (1107)
[8] السلسلة الصحيحة برقم (804)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق